سورة المؤمنون - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)} [المؤمنون: 23/ 35- 41].
أنكرت قبيلة عاد قوم هود عليه السلام كون النبي الرسول بشرا مثل بقية الناس، ثم أنكروا البعث والقيامة، وهذه هي الشبهة الثانية لهم، فقال الأشراف لقومهم:
كيف يعدكم هود أنكم تخرجون أو تبعثون من قبوركم أحياء بعد موتكم، وصيرورتكم ترابا وعظاما بالية؟ وقرنوا بهذا الإنكار الاستبعاد الشديد لوقوع ما يدعيه هود عليه السلام، قائلين: {هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36)} أي بعد بعد ما توعدون به أيها القوم، من حدوث البعث الجسدي، وعودة الحياة مرة أخرى، للحساب والجزاء، بعد حياة الدنيا، وقوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ} استفهام على جهة الاستبعاد، وبمعنى الهزء بهذا الوعد.
ثم أكدوا نفي احتمال وقوع البعث بقولهم: ما هي إلا حياتنا الدنيا، أي ما الحياة إلا واحدة، وهي حياة الدنيا، فالبعض يموت، والبعض يحيا، ولا إعادة ولا حشر ولا بعث، أي لا وجود لنا غير هذا الوجود، ولا قيامة وإنما تموت منه طائفة فتذهب، وتجيء طائفة أخرى، وهذا كفر الدهرية.
وبعد أن طعنوا في صحة الحشر، بنوا عليه الطعن في نبوة هود عليه السلام، فقالوا: وأما هذا الرجل هود الذي يدعي النبوة ويثبت وقوع البعث، فهو مجرد رجل اختلق الكذب على الله تعالى، فيما جاءكم به من الرسالة والإنذار، والإخبار بالمعاد، ولسنا نحن بمصدقين له فيما يدّعي ويزعم.
ولما يئس هود عليه السلام من إيمان قومه على هذا النحو المذكور، قال داعيا ربه:
ربي انصرني على قومي نصرا مؤزرا، وعاقبهم، وأهلك الأعداء، بسبب تكذيبهم إياي في دعوتي لهم إلى الإيمان بك، وتوحيدك، وإثبات لقائك.
فأجاب الله دعاءه، وأخبره أنه ليصيرنّ قومك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا، حين ظهور علامات الهلاك، وإنذارهم بالعذاب، إنهم عما قليل يندمون على كفرهم، حين لا ينفعهم الندم.
وكان الجزاء أن أخذتهم الصيحة: وهي صوت شديد مهلك لجبريل عليه السلام، أدى إلى الصعقة والموت، فأصبحوا بسبب كفرهم وتكذيبهم رسولهم صرعى هلكى، كغثاء السيل: وهو الشيء الحقير التافه الذي لا ينتفع بشيء منه. ومن أجل ذكر الصيحة: ذهب الطبري إلى أنهم قوم ثمود، لأن من المعلوم أن قبيلة عاد أهلكوا بريح صرصر عاتية، قال ابن كثير في تفسيره: والظاهر أنه اجتمعت عليهم الصيحة، مع الريح الصرصر العاصفة القوية الباردة.
فبعدا من الرحمة وهلاكا، وسحقا وتدميرا للقوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم، وطغيانهم، وعصيان رسولهم، وهذا قانون الإله العادل: وهو أنه لا يعذّب إلا بحق، ولا ينتقم إلا بالعدل، وسنته في جميع البشر واحدة، قال الله تعالى مبينا هذه السنة الثابتة الدائمة: {وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 43/ 76].
وفي هذا القول: {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} غاية المهانة والذلة لهم، وإظهار قدرة الله عليهم، وإنذار السامعين أمثالهم بأن من كذب الرسول سيصيبه من العذاب مثلما أصاب هؤلاء الظالمين.
الأمم الأخرى ورسلها:
على الرغم من تكذيب قوم نوح وعاد قوم هود رسلهم، وإهلاكهم بكفرهم، استمر العطاء والفيض الإلهي بإرسال رسل آخرين، وإيجاد أقوام متتابعين، كل قوم لهم تاريخهم وزمنهم، وكل رسول له مهمة وجهود في محاولة إصلاح البشر وتقويم الاعوجاج، وتجاوز اليأس في مسيرة التاريخ، لينتصر الحق في النهاية، وتعلو كلمة الدين والتوحيد فوق كل المعوقات والعراقيل، ويندحر الباطل وجنده، وينهزم الكفر وأشياعه. وقد تحقق ثبات الدعوة إلى وحدانية الله، وأدرك العقلاء زيف الدعوات الباطلة إلى الشرك والوثنية، قال الله تعالى مبينا هذه السنة الثابتة بإيجاد الأقوام والرسل في الأجيال المتلاحقة:


{ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)} [المؤمنون: 23/ 42- 44].
هذه الآيات إجمال لقصص ثلّة رفيعة من الأنبياء والمرسلين، وهم صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم الصلاة والسلام، ووجودهم تابع لإيجاد أقوامهم وأممهم، كل أمة مع رسولها في فترة زمنية معينة، وفي وقت مقدّر لا يتجاوزونه، ومفاد الآيات:
أخبر الله تعالى عن أنه أنشأ وأوجد بعد هلاك قوم نوح وعاد قوم هود أمما وخلائق أخرى، كقوم صالح ولوط وشعيب وأيوب ويوسف وغيرهم عليهم السلام، ليقوموا مقام من تقدمهم في عمارة الدنيا وتقدم الحياة. وكل شيء بميعاد وفي كتاب لا يتعداه في وجوده، فلا تتقدم أمة مهلكة من تلك الأمم وقتها المقدّر لهلاكها أبدا، أو المؤقت لعذابها إن لم يؤمنوا، ولا تتأخر عن الأجل المحدد، والمراد أن وقت الهلاك محدد معلوم في علم الله، لا يتقدم ولا يتأخر، فلا يتعجل أحد العذاب، لأن كل شيء عند الله بمقدار، والموت مرتبط بأجل الإنسان لا يتقدم ولا يتأخر، كما قال الله تعالى: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 16/ 61].
ثم أخبر الله سبحانه عن أنه أرسل رسلا آخرين في كل أمة، يتبع بعضهم بعضا، وهذا هو المراد بكلمة «تترى» فهو مصدر بمنزلة فعل، من تواتر الشيء، لا فعل بمعنى متواترين متتابعين، وإرسال الرسل سنة دائمة في البشرية، كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 16/ 36].
وكلما جاء الرسول لأمة، بتكليفهم بالشرائع والأحكام كذّبه جمهورهم وأكثرهم، سالكين في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدمهم، ممن أهلكهم الله بالغرق أو الريح الصرصر العاتية، أو الصيحة، أي الصوت الشديد المهلك لجبريل عليه السلام، كما جاء في آية أخرى: {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)} [يس: 36/ 30]. فكان الجزاء المرتقب أن الله سبحانه أتبع بعض الأقوام بعضهم الآخر بالهلاك والتدمير، يأتي بعضه إثر بعض، حين كذبوا الرسل، كقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)} [الإسراء: 17/ 17]. وذلك الإنذار باق دائم ليوم القيامة.
وتصبح نتيجة الهلاك: أن تلك الأقوام يجعلهم الله أحاديث وأخبارا للناس، يتحدثون عن أحوالهم، تلهيا وتعجبا، كما قال الله سبحانه: {فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 34/ 19].
وخاتمة الإهلاك ما قاله الحق سبحانه: {فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} أي هلاكا وتدميرا وبعدا عن رحمة الله، لقوم لا يصدقون به ولا برسوله، وهذا كلام وارد على سبيل الدعاء، والذم والتوبيخ والوعيد الشديد لكل كافر أو جاحد وجود الله، وهو ترسيخ لمبدأ ثابت: وهو أن تلك الأقوام العاتية كما أهلكوا عاجلا، فإن الهلاك لأمثالهم يأتي آجلا.
موسى وهارون وعيسى عليهم السلام:
هذه أنباء مهمة عن ثلّة أو كوكبة أخرى من كبار الأنبياء والرسل: وهم موسى وهارون وعيسى عليهم السلام. أما موسى وهارون: فكانت مهمتهما خطيرة، ومخيفة، في بلاط فرعون المتأله الجبار، وقومه المستكبرين الفجار، وذلك من أجل الإعذار والإنذار، وإقامة الحجة والبيان، فإن أعرضوا كان عقابهم في محراب العدالة حقا، وأما عيسى وأمه عليهما السلام فكانا في موقف صعب، وتحدّ وإنكار واتهام، لكن إرادة الله وحكمته، وبيان آفاق قدرته فوق كل التحديات، ومحبطة لكل ألوان الاتهامات، ومعلنة للبراءة والسمو والعفة والطهر على مدى التاريخ، قال الله تعالى في بيان هذه الأخبار:


{ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)} [المؤمنون: 23/ 45- 50].
يتابع البيان القرآني سرد أخبار فئة عليا من الأنبياء، بحسب الترتيب الزمني، وهنا يخبر الله تعالى أنه أرسل موسى وأخاه هارون بالآيات الدامغة الدالة على صدق نبوتهما لفرعون وملئه (قومه). وتلك الآيات تسع، منها اليد والعصا اللتان اقترن بهما التحدي، وهما «السلطان المبين» أي الحجة الواضحة، وبقية الآيات كالبحر الذي أغرق فرعون وجنوده فيه، والمرسلات الست: وهي أرسلها الله على فرعون وقومه، وذكرها الله في سورة الأعراف، وهي الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدّم، والرّجز أي القحط والسنون العجاف. وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون، بل هي خاصة ببني إسرائيل.
أيد الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام بهذه الآيات والمعجزات في مواجهة الطاغية فرعون وملئه، أي الأشراف وغيرهم، فاستكبروا عن الإيمان بموسى وأخيه عليهما السلام، لأنهم أنفوا من ذلك، وكانوا قوما عالين، أي قاصدين العلوّ بالظلم والكبرياء.
وكانت شبهتهم هي قولهم: كيف ننقاد لأمر موسى وأخيه هارون، وقومهما بنو إسرائيل خدمنا، وعبيدنا المنقادون لأوامرنا. ومقصودهم أن الرسالة الإلهية تتنافى مع صفة البشرية، ولا تتفق مع كون قوم موسى وهارون أذلة لفرعون وقومه. وهذه نظرة مادية، ينظر بها الماديون الذين لا يؤمنون بالقوى المعنوية، ولا بالذات الإلهية، ويقيسون عزة النبوة وتبليغ الوحي عن الله تعالى على أوضاع الرياسة أو الزعامة الدنيوية المعتمدة على الجاه والسلطة والمال.
وأدى هذا الشعور بالأنفة والاعتزاز إلى أمرين: الأول: تكذيب فرعون وقومه النبيّين الرسولين موسى وهارون، وأصروا على الكفر والعناد، فأهلكهم الله بالغرق في البحر الأحمر، في يوم واحد أجمعين، كما أهلك المستكبرين المتقدمين من الأمم، بتكذيبهم رسلهم.
والثاني: أيد الله موسى عليه السلام بأمر آخر غير الآيات التسع، وهو إنزال التوراة عليه، المشتملة على الأحكام الدينية، والأوامر والنواهي، بعد إغراق فرعون وقومه، لعلّ بني إسرائيل يهتدون بها إلى الحق بامتثال ما فيها من المعارف، والأحكام، والحكمة الإلهية.
ثم يخبر الله تعالى عن خبر مهم آخر: وهو أنه سبحانه جعل عيسى وأمه آية للناس دالة على قدرته تعالى، حين خلقه من غير أب، وولادة أمه إياه من غير رجل، ليكون ذلك دليلا على القدرة الإلهية الفائقة كل قدرة. وجعل الله تعالى مأواهما في مكان مرتفع من الأرض، صالح لاستقرار السكان، فيه الزروع والثمار، والماء الجاري الظاهر للعيون والذي لا ينضب. والراجح أن الربوة في بيت لحم من بيت المقدس، لأن ولادة عيسى عليه السلام كانت هناك، وحينئذ كان الإيواء والاستقرار.
مناهج الحياة:
الهدي الإلهي يعنى عناية شديدة بتحقيق العزة والاستقرار، والقوة وتقدم المجتمعات، فيشرع للناس من أجل هذه الغايات الجوهرية العناية بقوة الأجساد وصحتها، من طريق تناول الطيبات المستطابات المباحات، ونقاء الحياة بعمل الصالحات، وتماسك البنية الاجتماعية، وتكتل الأمة المؤمنة من طريق الوحدة والتعاون والعمل المشترك، سواء في مجال الاقتصاد، أو السياسة، أو الاجتماع، أو العلاقات الخارجية. ويدفع الوحي الإلهي كل تفريط أو تقصير أو تهاون في تحقيق هذه الغايات الكبرى. قال الله سبحانه مبينا مناهج الحياة السوية:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7